ومن خلال اطلاعنا على واقع التطبيق العملي في المحاكم وجدت ان كثيراً ما تثار دفوع جوهرية تؤدي إلى إفلات مجرم من عقاب، حتى أن تلك الدفوع من الممكن أن تثار في اخر مراحل الطعن وأعني بذلك أمام محكمة التمييز، ولعل من أهم هذه الدفوع الدفع ببطلان الإستجواب لعيب جوهري شاب اجراءاته.
من هنا وجدت أنه من الأهمية بمكان البحث إلقاء الضوء على هذا الإجراء الهام من اجراءات التحقيق الابتدائي، ولا أبالغ إذا ما قلت إنه من أهم الإجراءات التي يتعين على رجل النيابة العامة القيام به لأنه مجابهة المتهم بما هو منسوب إليه من تهمة بشكل تفصيلي وهو بذلك يختلف عن مفهوم السؤال الي يقع ضمن اختصاص رجال الضابطة العدلية.
فمما لا شك فيه أن من الضمانات المهمة التي دأب التوجه القانوني والقضائي على تحقيقها هي الحرية الواسعة للمتهم وهو يواجه التهمة المسندة إليه، بغية تحقيق كل السبل والوسائل القانونية التي تضمن له حق الدفاع عن نفسه، ونظرا لأهمية الاستجواب وخطورته واستنادا لطبيعته والدور الذي يتصف به إجراء الاستجواب أثناء التحقيق الجنائي فإن القانون نص على ضمانات بالنسبة للاستجواب سواء ما يتعلق بالجهة المختصة بالاستجواب أو ما يتعلق منها بحقوق وحرية الشخص المتهم. فالاستجواب هو المرحلة التي يتم خلالها أخذ إفادة المتهم لدى النيابة العامة أو قضاة التحقيق في بعض الأنظمة، وهي من أكثر المراحل التي تؤثر على طبيعة سير المحاكمة وصدور القرار بالإدانة أو البراءة وقد أنيطت هذه المهمة بالمحققين المخولين قانونا وهي النيابة العامة وفقا لقانون اصول المحاكمات الجزائيه الاردني حيث منح هذا الحق للمدعي العام فقط والذي منعه القانون من أن يوكل غيره للقيام بهذا الإجراء أو حتى التفويض به ولو كان التفويض لرجل الضابطة العدلية. فلا يجوز لرجل الضابطة العدلية أن يستجوب المتهم وكل ما له من صلاحية هو سؤال المتهم عند القبض عليه على سبيل المثال سؤاله عن اسمه وعنوانه وسنه ومهنته وإحاطته علما بالتهمة المنسوبه إليه، واثبات جميع الاقوال التي يدلي بها ولو اعترف، ولكن دون مناقشته بهذه الاقوال ودون مواجهته بالشهود أو غيره من المتهمين.
ونظرا لأهمية الاستجواب وخطورته فإن مخالفة أي ضمانة من ضمانات الاستجواب يترتب عليه البطلان القانوني المقرر بنص الماده 63 من قانون اصول المحاكمات الجزائيه الاردني. إضافة إلى أن ترك هذه المهمة بيد النيابة العامة وهي سلطة الاتهام، معناه ترك تقدير الادلة بيدها وكثيرا ما تهمل تحقيق دفاع المتهم مقابل صب اهتمامها على جمع ادلة الاتهام وهذا ما ينافي مبدأ ان النيابه خصم شريف للمتهم. كذلك فإن عدم التوسع بالتحقيق الابتدائي يؤدي إلى إحالة القضيه للمحكمة دون ان تكون ادلة الاتهام كافيه للادانه، وبالتالي فإن مهمة النيابه العامه يجب ان تكون في تحقيق التوازن ما بين مصلحة المتهم ومصلحة المجتمع (المصلحة العامة) وذلك يتأتى من خلال التوسع بالتحقيق مراعاةً للمصلحتين مع تحقيق العدالة الناجزة (عدم إضاعة الوقت) بما لا يؤدي الى ضياع وقت المحاكم فضلاً عما يصيب المتهم من اضرار مادية ومعنوية وبذات الاهميه بما لا يؤدي الى افلات مجرم من العقاب.
إن الواقع العملي اثبت لنا أهمية وخطورة إجراء الاستجواب والمواجهة وضرورة أن يحاط بأكبر قدر من الضمانات التي من شأنها أن تنأى به عن الانحراف عن غرضه المنشود. ولعل أهم هذه الضمانات على الإطلاق ضمانة حياد المحقق، التي تقتضي أن يباشره قاضٍ محايد لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون، يحترم حقوق الإنسان وقرينة البراءة، وينزه نفسه عن استخدام أية وسيلة غير مشروعة من شأنها التأثير في إرادة المشتكى عليه. وفي ضوء ذلك، فإننا نعتقد أن موقف الشارع الأردني الذي تراجع بمقتضاه عن مبدأ الفصل بين وظيفتي الادعاء والتحقيق الابتدائي، الذي كان مقرراً في قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (76) لسنة 1951، واعتمد نظام جمع الوظيفتين في يد النيابة العامة في قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (9) لسنة 1961 النافذ حالياً، هو موقف يصعب الدفاع عنه بسبب الاختلاف القائم بين الوظيفتين سواء من حيث الدور أو من حيث الطبيعة القانونية؛ فهو جمع بين اختصاصين متناقضين، مما يضع النيابة العامة في موقف الخصم والحكم في آن معاً، ولا يمكن للخصم أن يكون محققاً محايداً وعادلاً، حيث يجد المشتكى عليه في قاضي التحقيق من العدل والحياد والموضوعية ما لا يجده في موجّه التهمة إليه.
ومع التحفظ على نظام جمع وظيفتي الادعاء والتحقيق الابتدائي في يد النيابة العامة، فإن الشارع وضع ثقته في المدعي العام، بوصفه أحد أعضاء النيابة العامة ورئيس الضابطة العدلية، أو بوصفه قاضياً للتحقيق، فأناط به وحده صلاحية استجواب المشتكى عليه، وحظر على موظفي الضابطة العدلية القيام بالاستجواب أصالة أو إنابة، ولعل ذلك يوجب شيء من الضمانه لهذا الاجراء الهام.
الدكتور المحامي ثائر سعود العدوان
مدير عام شركة نزاهة للمحاماة والاستشارات القانونية والتحكيم